كنت أسير مع الشيخ في شوارع المدينة في وقت متأخّر من أمسيات الخريف، بعد فترة وجيزة من قبولي مريداً. وعند مرورنا إلى جانب مقبرة، خرجت من فم الشيخ الكلمات التالية:
الكتاباتُ التي تعود إلى قرون… التي نقَشها الإنسان على الحجر، هي كالكتابات المنقوشة على الماء لدى الله.
مرَّت سنوات عدَّة قبل أن أسمع هذه الكلمات مرَّة ثانية. كرَّرها مرَّة أخرى في أحد الأيام التي ودَّعنا فيها شهر رمضان توّاً، واجتاحت معاني هذه الكلمة العميقة قلبي بكلِّ حلاوة نسيم معطّر برائحة الياسمين. لا يوجد سلام ولا أمن ولا أيّ شيء يمتلك صفة الأزل سوى الله تعالى. على مدى قرون، سعى الناس إلى كشف تعويذة الكون، والعثور على مفتاح لفتح الكنوز، ولمس الهدوء الحلو لحياة خالية من الهموم والقلق وتذوّقه وعيشه. في الواقع، ما تطارده قلوب الناس المتلهّفة كان دائماً ما يطلبه كلّ باحث: حالة من اللذَّة دون وجود تهديد مثل اليأس أو الغموض أو الانفصال. ومع ذلك، غالباً ما يبحث الناس عمَّا فقدوه في المكان الخطأ، وينقشون في أذهانهم فكرة أنَّ الأشياء الماديَّة في العالم ستحلّ هذه الأحجية.
قال الشيخ: «تعيش البشريَّة أسوأ أيامها منذ مصيبة يوم كربلاء». وتابعَ قائلاً: «لا يمضي يومٌ إلّا ويحقّق الشرُّ فيه انتصاراتٍ جديدة في بقاع الدنيا كافَّة. وفرصتُنا للخروج مُنتصرين في هذه الحرب ضئيلةٌ تقريباً، هذا إذا لم تكن معدومة… لذلك ينبغي لنا أن نجدَ مرهماً لتضميد هذا الجرح دون إضاعةٍ للوقت نهائيّاً. والأمر المشين في هذا الأمر أنَّ غالبيّة البشر يعانون أكبر الويلات من ناحية تحقيق العدالة، ويصمّون آذانهم عن صوت الحقيقة من ناحيةٍ أخرى. لكنَّ مهمَّتنا المقدَّسة هي الدِّفاع عن حقِّ الحياة، مهما كانت العراقيل والمصاعب التي ستعترضنا». ثمَّ قال الشيخ: «أريد أن أقول لكم شيئاً، وهو أنَّ الطريقة هي الضّوء الذي ينير الطريق للبشريَّة عندما تضلّ طريقها في العاصفة. والطريقة مؤلَّفة من الناس الذين يدافعون عن الحقيقة. والدفاع عن الحقيقة هو من مزايا الناس المسلمين الذين يسلّمون أنفسهم لله عزّ وجلّ، أي الذين يكونون في حالةٍ من الأمان والطمأنينة… والله العالِم المُطلق يعرفُ من هو المسلم. وأن يكونَ المرءُ مسلماً فهذا يعني أنّه يحمل وساماً مشرِّفاً.
لقد كشفت لي دروس الماضي أنَّني ربَّما لم أمتلك بعد الجرأة والإيمان الكافيين لأجل الانطلاق في الطريق المؤدّي إلى مرتبة الفناء في الله. لكنّي فهمت من تلك الدروس أنَّ باب الطريق المؤدّي إلى الفناء في الله هو بابٌ واضحٌ لمن يبحثون عنهُ. ووصولُ الشخص إلى هذه المرتبة هو علامةٌ فارقة، إضافةً إلى أنَّ هذه التجربة هي النتيجة العليا من الفِعل
عدد الصفحات : ٢٩٢.