عرض جميع النتائج 3
التبر
3.500 دك
لا تودع قلبك في مكان غير السماء. إذا أودعته عند مخلوق على الأرض طالته يد العباد وحرقته. والشيخ لا يرهن قلبه. لم يرهنه قط. لم يتزوج ولم يلد ولم يربِّ قطعان الأغنام أو الإبل. ربما كان هذا هو سبب تحرره من الهم. لم يره غاضبا. ولم يره ضاحكًا. ابتسامة واحدة، ثابتة، مطبوعة على شفتيه. وها هو الآن يقف على حكمته . عادت الاستغاثة تشق سكون الصحراء، وتتردد في كل السلسلة الجبلية: «آ-آ-آ-ع-ع-ع…» غزت أنفه موجة جديدة من الشياط. حملتها إلى قبره نسمة شمالية لافحة فاحترق قلبه. أزاح الأحجار التي تسد الشق فأعماه النور. زحف على أربع مغمض العينين. رائحة الشياط تشتد. تمتزج بالنسيم اللافح وبرائحة الحطب والدخان. رآهم يتكأكؤون حوله عند السفح. بعضهم يشده بالحبال والبعض ينشغل في تحمية السكاكين والمدى في الموقد المشتعل.
عدد الصفحات : ١٣٠
الورم
3.000 دك
تسلط البذر في سماء عارية، فاستسلمت الصحراء، واستجابت الكائنات بالصمت، ابتهاجا بأفياض الضياء، وربما استغراقا في ممارسة الصلاة، صمت مريب ينبئ بالعدم، كأن لا وجود لخليقة في الصخراء، بل كأن لا وجود للصحراء، أو كأنه السكون الذي سبق ميلاد الكائنات، بل سبق ميلاد الصحراء.استشعر في ذلك المساء لذة غامضة، لذة لم يعرفها منذ الطفولة، لأنها كانت الزمن الوحيد الذي عرف فيه الاستسلام للشكون، والرحيل إلى السماء المرضعة بحشود النجوم، الرحيل الذي سيدرك فيها بعد أنه هو ما يلقبه العقلاء وأصحاب الكهانة باسم التأمل، هذه اللفظة الصغيرة التي لا ينطقونها إلا بمراسم الإجلال الشديد، ويعلقون عليها آمالا خفية دائما. فقال بصوت ما زالت تخنقه العبرة:- إن استنطاق الأبرياء شهادة خلاصي.
عدد الصفحات : ١٩٠
بيت في الدنيا وبيت في الحنين
5.000 دك
كان يروض بناي القصب لحناً عصياً من لحون الحنين في خلوة المساء عندما باغته حكيم الجن. لوعته الوحشة في عزلة المراعي، فخاض في أوحال المستنقع المتخلف عن غدران السيول ليستقطع من عيدان القصب ساقاً دبر منه ناياً لئيماً نعته حكماء الدعاة فقالوا أنه الآلة الوحيدة في الصحراء التي استطاعت أن تحتال على الخفاء، وتستجدي من أركانه معشوقاً اسمه الحنين. قبل أن يعارك ساق القصب لاستدراج الحنين، احتال على المجهول، وحاول طويلا أن يستدرج الحنين بالصوت، بالأغاني، ولكنه أخفق دائماً، فلم يجد مفراً، للتنفيس عن كربته، غير الدموع استلقى على قفاه مراراً، عقب كل إخفاق، وتطلع إلى السماء اللامبالية بعينين مغمورتين بالدموع، فلا يكتشف أنه غاب في الرحاب أكثر مما ينبغي إلا عندما تلسعه شمس الصباح بسياطها النارية، فيجد أن غيبته لم تستغرق الليل كله وحسب، ولكنها استقطعت نصيباً من نهار الأمس أيضاً. وكان كثيراً ما يتساءل عن سر الإغفاءة، لأن أحداً لم يخبره يوماً أن الهم إذا زاد عن الحد يمكن أن يكون سبباً لذلك الجنس من الإغماء. كما لم تستثر الدموع في مقلتيه دهشته أيضاً، لأنه لم يذكر نفسه إلا باكياً: إذا استصغره الأغيار بكى، وإذا استكبروه أيضاً بكى، وإذا أبصر الفراخ الجرداء في أعشاش الطير زعزعه الشوق وبكى. ولكن لا يبكيه شيء كما تبكيه اللامبالاة القاسية في معشوقتيه الخالدتين: السماء وقرنيتها السفلى الصحراء! عاهد نفسه أن يحتمل كل شيء، ولكنه أخفق دائماً في الصدد أمام مرأى الصحراء ومرأى السماء، فكان يغسل مقلتيه بأنبل وأحر أصناف الدمع مع مطلع كل شمس، لأن سليل الصحراء، ومعشوقته الأخرى السماء، لا بد أن يصير البكاء له قدراً. تستهويك حكاياته، تمتطي مع سردياته غيمات ترحل بك عبر سماوات الخيال تسكن روحك هناك منتشية بسحر الإبداع الأدبي.
عدد الصفحات :٤٠٠